“هذا هو البديل الوحيد”، كم مرة سمعنا هذه الجملة منذ يناير ٢٠١١. ربما تكون مرة أو مرات مصحوبة بالأسف لأن الظروف لا تسمح بأكثر من ذلك ولأن الضرورة تفرض ما هو صعب: ليس أمامنا سوى توقيع قرض الصندوق، حتى وإن كان مشروطاً وإلا الإفلاس، يجب وقف الإضرابات العمالية وإلا انهارت البلد، لا يمكننا تطهير جهاز الدولة لأنه لا توجد كفاءات (وكأنه كان بأى شكل كفئاً)، لابد وأن نلعب الدورى العام حتى وإن كنا غير قادرين على تأمين حياة المتفرجين، لا نملك سوى أن نقول نعم لدستور معيب مشوه معادي للحريات وللعدالة الاجتماعية أو أن نقول لا فتمتد سلطات الرئيس الاستثنائية وتمتد المرحلة الانتقالية عاماً آخر على الأقل دون برلمان.
هكذا يتم تصوير الأمور وتقليص اختياراتنا وتصفيتها فى درب واحد، دائما ما يقال لنا، أو نوضع في خانة، إنه تفرضه الضرورة أو العملية الواقعية أو عدم وجود حلول آخرى. غير أن سياسة الدرب الوحيد، وهو درب عادة ما يكون مظلماً أو مليئا بالحفر ولا يؤدي إلا إلى ما هو أقل القليل، إن لم يوقعنا فى المزيد من العثرات، هي في الحقيقة تجفيف لمنابع الاحتمالات اللانهائية التي فتحتها الثورة لتحسين حياتنا. ولا يعنى امتداد “أنا أو الفوضى” المباركية، وإما «الديكتاتورية المخابراتية أو الاخوان» على الطريقة العمر سليمانية، و”إما العسكر أو انهيار الدولة” التي روجها المجلس العسكري، إلى «إما نعم أو الفوضى» الإخوانية، سوى أن الذين يحكموننا جميعاً يدورون فى مدار ما قبل الثورة سواء لأن ذلك مسألة وجود بالنسبة لهم، أو أن مصالح من يمثلونهم فى المجتمع تقيد بدائلهم، أو حتى بسبب ضيق الأفق وانعدام الرؤية لما صار ممكناً وواقعياً.
واقعيتهم الكاذبة
فلنتخيل أنفسنا يوم ٢٤ يناير ٢٠١١. كيف كانت المعارضة المصرية وربما كثيرون ممن كانوا ناقمين على الوضع، تتخيل إمكانات التغيير؟ الأغلبية الكاسحة كانت ترى ما يفعله نظام مبارك بالبلاد والعباد لكنها أيضا كانت محدودة «بالاختيارات الواقعية»: مطالبة النظام بإلغاء الطوارىء، الحصول على أكبر عدد من المقاعد في برلمان مدجن حتى وإن لزم لذلك بعض التنسيق على المقاعد مع أمن الدولة، القبول ببعض الاصلاحات هنا وهناك لأن توازن القوى لا يسمح بأكثر من ذلك، بل دافع بعض المعارضين الخلصاء عن نظرية أن مصر ليست تونس وأنه لا إمكانية لتغيير ثوري بسبب نقص التعليم والتنظيم، وبالتالي فإن المظاهرات المدعو إليها في اليوم التالي عمل «صبياني». فهل كان الواقع فعلا لا يسمح بأكثر من ذلك؟
كان الواقع يسمح في الحقيقة بثورة ٢٥ يناير التى أسقطت الديكتاتور وهزت أركان «استقرارهم» هزًّا. كانت تناقضات الواقع التي تنتج فقراً وظلماً ولا مساواة وانعداماً فى الكفاءة وكذباً مفضوحاً تنذر بالجديد لأصحاب المصلحة، وتهيء الأرض له. كانت نضالات العمال والموظفين والأطباء والمدرسين والمحامين والفلاحين تمهد الأرض على مهل وبإصرار للجديد الآتى. كانت شرعية النظام، الذى رأته بعض المعارضة مركز المجرة الذى لا يجوز الدوران إلا حوله وفي مداره، قد استنفدت رصيدها وخنقته تناقضاته في انتظار لحظة خروج الأنفاس. وجاء ٢٥ يناير ليكشف كيف أن السماء واسعة.
لكن الكثيرين يأبون تعلم درس الثورة لهذا السبب أو ذاك.
هل يوجد أمامنا بدائل أخرى حقاً؟
لا تحظى المسألة الاقتصادية بعشر ما تستحقه من النقاش العام. لا تأخذ قضايا معيشة الناس ودخولهم وهل يجدون وظيفة أم لا وهل يجدون الغذاء والعلاج والدفء في الشتاء والتعليم لأبنائهم عشر مساحة ملاسنات عبدالله بدر ومحمد أبوحامد ومصطفى بكري، ولا بعضاً قليلاً مما تحتله مناظرات حصص السياسيين فى المجالس والجمعيات.
فى المسألة الاقتصادية، يجمع كل من يصلون للحكم على أنه «لا بديل» سوى استمرار النظام القديم بتقشفه وانحيازات موازناته وخططه التقشفية وبوصلته المتوجهة للمستثمرين عموماً، والأجنبي المباشر منه خصوصاً، على حساب أي شيء وكل شيء. هنا تظهر سياسة تجفيف البدائل في أجلى صورها، ويتم تغييب النقاش العام فى القضية التى يتهم شعبنا الثائر بأنه لا يهتم لغيرها: أكل العيش. والسبب واضح أن البدائل عديدة وأفق الواقع مفتوح لكن الخروج عن فلك السياسات القديمة يفجر التوازن السياسى الجديد الهش.
فلننظر في قرض الصندوق مثلاً. من يتخذ القرار بشأنه؟ كان المجلس العسكرى وحكوماته ثم الآن حكومة الرئيس المنتخب. وجميعهم يؤكدون على ضرورته وأهميته وكارثية الرجوع عنه. لكن من يتخذ القرار حقاً؟ سنجد وراء كل من ذكرناهم فريقين: الأول فريق الموظفين الحكوميين في الوزارات المعنية، وهؤلاء مدربون ومصممون لصيانة موديل قديم لسفينة غارقة، ومتمرسون فى حماية مصالح النظام القديم. أما الفريق الثاني من أصحاب القرار الحقيقيين فهم رجال أعمال النظام القديم وحلفاؤهم من النظام القديم الذين يريدون تحويل سياساتهم القديمة إلى التزام دولي يقيدنا بديون خارجية من المنتظر أن تقفز بعشرين مليار دولار في عام واحد لو مر القرض وتبعاته. أهمية قرض صندوق النقد أنه قرض سياسات يلخص كل شيء في السياسة والاقتصاد، يعيد إنتاج السلطة القديمة أحياناً بنفس الوجوه ويلخص التناقض بين زقاق مصالحهم وسموات مصالحنا.
في قضية القرض نواجه أناسا يقولون لنا إنه لا بديل وآخرين يقولون إن الواقع لا يسمح بإيقاف القرض. لكن الواقع في الحقيقة يسمح بالكثير. فهناك طائفة واسعة من البدائل «الواقعية من وجهة نظر الثورة والفقراء والاقتصاد الرشيد» في برامج المرشحين الرئاسيين وفى تصورات حملات شعبية عديدة وغيرها. وهذا ليس على مستوى التمنيات أو تفاؤل الإرادة لأن القديم صار مهلهلاً وضعيفاً وغير واقعي.
ماذا فعل قرض الصندوق في الأردن؟ رفعت الحكومة الأسعار فى سبتمبر (نفس الشرط المطلوب منا بحذافيره) فقام الشعب وتراجع الملك. لكن الأخيرة عادت لتحاول مرة أخرى في نوفمبر لتتحول المظاهرات هذه المرة إلى ماكان أمراً لا يُمس: الملك نفسه. هذه هي التناقضات التي توسع الأفق وترفع سماء الاحتمالات وتخلق واقعاً جديداً وترص قوى لم نكن نتخيل أنها موجودة وراء أهداف تبدو خيالية. فقط للنظر لما حدث عندما مررت الحكومة بليل إجراءات شبيهة بالأردن وسط جدل سياسي محتدم حول الاستفتاء على الدستور: اصطدم متخذو القرارات بواقعنا الجديد الذي لا يسمح بهذه الثورة المضادة، فقرروا تأجيله بعد ساعات قليلة.
وتتسع السماوات أكثر حينما ننظر للعالم. فتجارب الآخرين مليئة بالبدائل التنموية والاقتصادية المغايرة، في آسيا وأمريكا اللاتينية. ودروس الأزمة الاقتصادية في أوروبا وأمريكا تكشف تناقضات النظام الاقتصادي القائم على الإفقار والاستغلال وعدم المساواة وانعدام كفاءته حتى ضمن مقولاته ذاتها. وهكذا انفتحت، بفضل هذا وبالهام من ثورة العرب، باب بدائل أخرى يحارب من أجلها البسطاء.
هذه الثورة خلقت توازنا جديدا للقوى ذهب باستقرارهم إلى غير رجعة. هذا الآن هو الواقعي الحقيقي، وهو يعطينا ملايين البدائل والفرص الجديرة بالنضال من أجلها.
ببساطة: للثورة كل الخيارات الأخرى.
•••
لنسأل جميع الأسئلة
ولنجمع كل الأشعة
ولنقف فى مدخل كل طريق
ولنصفّ من أشعارنا طريقا لكيلومترات طويلة
ولنكون أول من يتبين عدونا المقترب
ثم لنضرب بطبولنا
كي لا يبقى بلد أسير أو إنسان
ولا غيوم ذرية
ولنهب كل ما نملك من مال ومُلك وفكر وروح
ولتغدو أشعارنا طريق حريتنا الكبيرة
ناظم حكمت
[ عن جريدة " الشروق " المصرية]